ظل صوته حتى وفاته قويا متماسكا رغم قسوة المرض..
عبدالمنعم الطوخي.. رحيل بلا غياب
لم يسع لمنازلة الكبار برغم قراءته معهم.. وحرص أن يخفض جناحه لهم
كانت المملكة أولى الدول التي قصدها.. ولم يقعده المرض عن أداء رسالته
القاهرة: محمد عبدالعزيز
تعرفت إلى صوته قبل عشرين عاما، جذبني كما الملايين غيري، شيء ما في تلاوته وتجويده، شيء يبدو مختلفا، تشعر معه بقشعريرة غريبة، وتطوف وآيات الذكر الحكيم تتوالى على مسامعك بروحانيات عالية جدا.. لاسيما وقد أمتاز أداؤه بفطرية عالية، نفذت به إلى القلوب دونما تلميع، أو سعي وراء شهرة ومنصب أو مال.. وأحسست بحزن حقيقي لرحيله قبل نحو عامين، وإن كان عزائي أنه ترك للمكتبة الإسلامية إرثا لا يغيب.
كالمعتاد، كان الريف المصري هو المحطة الأولى التي انطلقت منها مسيرة الشيخ عبدالمنعم محجوب الطوخي، حيث ولد في إحدى قرى محافظة المنوفية بدلتا مصر في نحو العام 1945م.. وفي كتاتيبها كانت نشأته الحقيقية، لاسيما أن والده كان حافظا للتنزيل الحكيم، ولم يكن قد تجاوز السابعة من عمره حينما فطن والده إلى موهبته ونبوغه في الحفظ والترتيل، وتمتعه بصوت خاشع عذب، ولم يحتج إلا لعامين حتى يتم حفظه للقرآن كاملا. ومع ذلك داوم والده على مراجعته، وإرساله إلى العديد من مشاهير المحفظين كي يتعلم على أيديهم أصول التلاوة وآدابها، دون الاعتماد فقط على جمال وقوة صوته.
على خطى الكبار
تعلم الشيخ عبدالمنعم الطوخي على يد كبار الشيوخ المشاهير في مصر، وفي مقدمتهم الشيخ محمد رفعت، وكذلك الشيخ أبوالعينين شعيشع، لكنه تأثر كثيرا بمدرسة الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي تنبأ له بمستقبل كبير في رحاب القرآن الكريم، وأحاطه برعايته واهتمامه وكان متابعًا لخطواته.
وعلى الرغم من صغر سنة استطاع "الطوخي" أن يخترق الصفوف إلى كبار المقرئين، وأن يقتفي أثرهم، راغبا بإخلاص في أن يتزود من خبراتهم ويتجول في مدارسهم المختلفة في التلاوة والتجويد، ولم يكن غريبا مع إصراره وحرصه وإخلاصه للرسالة التي نذر نفسه من أجلها أن ينضم إلى صفوة قراء أرض الكنانة وهو في عمر أبنائهم، كالشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الشيخ محمود علي البنا، الشيخ مصطفى إسماعيل، الشيخ محمد صديق المنشاوي، وغيرهم.
وعلى الرغم من أن الفرصة واتته للقراءة مع هؤلاء الكبار، إلا أن الغرور لم يتسرب يوما إلى صدره، ولم يسع لمنازلة هؤلاء الكبار، أو أن يجعل من نفسه نداً لهم، بل كان حريصا على الدوام بأن يخفض لهم جناحه، وأن يردد اعتزازه بالتعلم على أيديهم، وأن يكون تلميذا وفيا من تلاميذهم.
أيضا، لم يركن بما حققه من شهرة في وقت قياسي بين مشاهير القراء إلى الوثوق والاغترار بعلمه، بل كان حريصا على الدوام في أن يراجع حفظه، وأن يتعلم آداب التلاوة والقراءات العشر، مؤكدا أنه لا كبير أمام القرآن الكريم.
مع الرئيس
في عام 1977، كان الشيخ مدعواً لتلاوة آيات الذكر الحكيم في افتتاح أحد المساجد بمحافظة "سيناء" في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وكان الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات من الحاضرين لهذا الافتتاح، واستمع بإنصات وخشوع لتلاوة "الطوخي"، وشد انتباهه بقوة أن يستمع لقارئ لم يبلغ الأربعين من عمره يمتلك براعة في الأداء، ودقة في الأحكام، ومخارج الحروف، والوقفات.. ومنذ ذلك اليوم حرص "السادات" على سماعه باستمرار، كما حرص على اصطحابه في العديد من رحلاته الداخلية والخارجية.. كما أعجب بصوته العديد من رؤساء وملوك وأمراء العالم العربي والإسلامي، وكثيرا ما كان يتلقى دعوات منهم لتلاوة القرآن الكريم، وإحياء مختلف المناسبات الإسلامية.
كما كان شهر رمضان فرصة مثالية للشيخ لينطلق في العديد من أرجاء العالم الإسلامي والعربي، حيث حرص على التواصل مع مختلف الشعوب الإسلامية والجاليات في مختلف الدول الأخرى، وكان في كل مرة يجد صدى كبيرا وتجاوبا كبيرا على المستويين الشعبي الرسمي، وكان من أوائل الدول التي حرص الشيخ على زيارتها المملكة العربية السعودية، باكستان، إيران، الصين، ومختلف الدول العربية، كما شارك في افتتاح العديد من المساجد والمراكز الإسلامية كما في افتتاح المركز الإسلامي في لندن، ولم يتردد يوما في تلبية أي دعوة لتلاوة الذكر الحكيم مهما بعدت المسافة أو واجه من مشاق، فكان أن وضع الله حبه في قلوب كل مستمعيه.
شيخ قراء الإسكندرية
اختار الشيخ عبدالمنعم الطوخي مدينة الإسكندرية سكنا له، وحقق فيها حضورا واسعا، حتى بات يلقب بـ"شيخ قراء الإسكندرية"، لكن مع ذلك لم يكن نشاطه محدودا، بل كان ينطلق في كل الأرجاء ليتلو كتاب ربه، لم يتسرب الوهن إلى صوته على الرغم من تسرب المرض إلى جسده، وإصابته بمرض الكلى، فكان يتحامل على نفسه حتى لا يخذل محبا لتلاوته.
كما كان عازفا عن الأضواء على الرغم من سعيها الحثيث وراءه، وظل لسنوات طويلة رافضا نصائح بعض شيوخه وزملائه وتلاميذه بالتقدم للإذاعة ليكون قارئا معتمدا بها، وحينما قبل على مضض أن يخوض التجربة تربص له البعض وحالوا دون ذلك فانصرف عنها غير نادم، مكتفيا بالرصيد الكبير الذي حققه بين مستمعيه في كل أرجاء العالم العربي، وبعدد لا يحصى من التلاميذ الذين تأثروا بمدرسته واقتدوا به، وظل على هذا الحال لا يعرف مهمة له في الحياة سوى كتاب رب العالمين، فكان سفيرا له في كل بقعة وطئتها قدماه داخل مصر وخارجها، لم يمنعه من أداء هذه الرسالة مرض أو طول سفر، أو مشقة، وظل على الرغم من شدة المرض لاسيما في الشهور الأخيرة من حياته وهو يكمل عامه الثانى والستون تالياً للذكر الحكيم، وقدم تلاوات قبل يومين من رحيله لا يعتريها وهن أو ضعف على الرغم من خضوعه لجلسات غسيل كلوي مكثفة، كان يستعد خلالها للسفر إلى الصين لإجراء عملية زرع كلى، وظل لآخر يوم في حياته يقرأ القرآن حتى وهو على فراش الموت وكانت سورة الرحمن آخر ما قرأ، إلى أن الأجل وافاه قبل أن يسافر، وصعدت روحه إلى رحاب ربه يوم 17 أبريل2007.
وقد شيع جثمانه من مدينة شبين الكوم بالمنوفية إلى مدينة الإسكندرية جمع غفير من محبيه من شتى البلاد، فضلا عن مئات من زملائه وتلاميذه ومنهم القارئ الشيخ أحمد البحيري، الشيخ مرضي أبو هريرة، الشيخ أحمد عثمان، الشيخ حامد منصور، الشيخ محمد البهلوان، الشيخ محمد القبلاوي، والشيخ محمد مدين.. وقد أعلنت بعض البلاد مثل باكستان، وغيرها من الجاليات الإسلامية يوم وفاته يوم حداد رسمي، تقديرا لرحلته النورانية مع القرآن الكريم.